Find Us OIn Facebook


تصعب الكتابة في بعض المواضيع، لكن لا بد من الكتابة. وهذه أيضًا واحدة من تلك المقالات بالنسبة لي. لم أكن أستطيع التأجيل أكثر من ذلك. تزامنت مع الأيام الأولى من العام الجديد. إذا كان ذلك خطأ، فأرجو منك المعذرة أيها القارئ العزيز.
أعتقد أنني كنت قد فكرت للمرة الأولى في التعذيب، قبل سنوات، وأنا مندهش "كيف يمكن أن يفعلوا هذا العمل المثير للاشمئزاز والحقير؟" زد على ذلك هل كان يمكن أن يكون التعذيب "عملًا"؟ ألم يكن لهذه المخلوقات التي هي على هيئة البشر أمهات أو آباء أو زوجات أو أطفال؟ ألم يسبق لهم الظهور بين الناس قط؟ كيف يمكن أن تكون ضمائرهم وإنسانيتهم قد ​​عميت إلى هذا الحد؟
في السنوات التالية، لاح في ذهني سؤال مماثل بالنسبة لأحداث درسيم 1938 أيضًا... فعلى الجانب "الآخر" من تلك الروايات الرهيبة التي سمعناها من شيوخنا، كان هناك من نفذوا تلك المذبحة. فكيف كانوا يستطيعون العيش مع هذا الواقع؟
كان هذا السؤال مستقرًا دائمًا في إحدى زوايا عقلي وأنا أبحث حول أحداث "درسيم".
أجل، لقد روى "إحسان صبري جاغليان غل" ذكرياته قبل موته: كيف حُوكم "سيد رضا" وأصدقاؤه، وكيف تم اتخاذ قرارات الإعدام، والمشانق التي أُقيمت في ميدان "ألازيغ بوغداي"، وكيف سار "سيد رضا" إلى المشنقة... ولكن "جاغلايان غل" هو في النهاية شخص تم تعيينه بشكل "خاص" لتنفيذ عمليات الإعدام". ليس من الأشخاص الذين أحرقوا تلك القرى، ودمروها، وقتلوا الناس دون تمييز بين كبير ولا صغير...
كان هناك أيضًا "محسن باتور"، نعم... محسن باتور، قائد الانقلاب العظيم، الذي كان يُعرف سابقًا باسم "الباشا الطائر"، نشر هو الآخر مذكراته في عام 1986. ولكن باتور في مذكراته التي حكى فيها، حياته بالتفصيل، هو يجملها ويُعسِّلها إن صح التعبير، لما وصل به الحديث إلى أحداث "درسيم" اكتفى بأن يقول عن عملية درسيم العسكرية التي شارك فيها كضابط شاب "أعتذر لقرائي، وأمتنع عن الحديث عن هذا الجزء من حياتي".
وفي أثناء إعداد كتابي "درسيم... درسيم... بدون مواجهة لا ينتهي شيء" للنشر (دار نشر تيماش، 2010) تعرفت بابنة ضابط الشرطة الذي كان يمسك بـ “سيد رضا“ من ذراعه وهو يذهب به إلى المحكمة، ثم إلى الميدان الذي سيتم إعدامه فيه. إن "صادق فورال" الشرطي الذي يمسك سيد رضا من ذراعه تجنب الحديث مع أولاده بشأن أحداث 1938 وسيد رضا. واكتفى بقول "حين تكبرون تفهمون". شارك صادق فورال في العملية العسكرية أيضًا، وقد أعطتني ابنته الصور الفوتوغرافية التي التُقطت في درسيم في تلك السنوات. لكنني لم أنشرها إذ لم تسمح بذلك أسرته، وهي لا تزال محفوظة في أرشيفي.
والجنود؟ من كان هؤلاء؟
أخيرًا وفي الأيام الأولى من عام 2007، استمع جندي شارك في مذابح 1938، إلى صوت ضميره وتحدث بما شاهد، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بدأ "عبد الله جفتجي" من أورفه، يتحدث قائلًا "ما رأيته، أسأل الله ألا يُريه أي شخص"، وقال:" استمرت العمليات لعدة أيام. عندما كنا نذهب إلى القرى، كان يهرب رجالها البالغون. ويبقى الأولاد والبنات فقط في القرى. كنا نحرق حظائرهم ومخازنهم. ثم كنا نصفُّ أطفالهم وبناتهم ونساءهم جميعًا أمام الرشاشات الثقيلة، ونقتلهم. كانت دماؤهم تتدفق مثل الفيضان. استمر الوضع هكذا عامين. (...) كان الأطفال يعانق بعضهم بعضًا. إنها الروح، فماذا تفعل؟ ثم كان صراخهم يرتفع إلى السماء. كانت دماؤهم تسيل وتجري. لا تزال تلك الصرخات حاضرة في أذنيَّ، لا تذهب بأية حال".
وفي عام 2011، ومن أجل فيلم وثائقي يتناول أحداث النفي والتهجير عام 1938، والذي يسمى "العربة السوداء"، استمع إلى صوت ضميريهما جنديان آخران شاركا في العملية العسكرية. أحدهما "حيدر دَده"، فقد قال "لقد أطلقنا النار على الرجال، وأطلقوا. الآن صفوهم جنبًا إلى جنب. وقتلوا خمسمائة أو ستمائة شخص بالرشاشات الثقيلة. وضعوهم في نهر "هارجيك"، فكان النهر يتدفق ماءً شديد الحمرة".
الجندي الأخر، ويدعى "أسكري آكيول" أدلى بشهادته على الأحداث هكذا: "ذهبنا من ديار بكر إلى درسيم مشيًا لمدة سبعة أيام وسبع ليال. وبعد أن وصلنا أرسلونا إلى "علي بوغازي". وحين غادرنا، كان الجنود يحرقون المنازل. كانوا يحرقون جميع المنازل التي وصلوا إليها. (...) كانوا مضطرين إلى إلقاء القنابل في الكهوف. فلما كنا نذهب لاحقًا وننظر كنا نجد أن معظم من هناك شيوخ مثلي (الآن). لقد كان الجنود يحضرونهم ويكدسونهم فوق بعضهم البعض، ويصبون عليهم الكيروسين ويضرمون النيران فيهم... هكذا وهم على قيد الحياة ... (...) لم يكن جدول "يوكاري كوتو" أيضَا يستطيع أن يصفو من رائحة الجثث. لقد قتلوا الناس وألقوهم هناك. لم تحدث مثل هذه الكارثة من قبل."
وقرب نهاية العام الماضي، اهتززنا بشهادة على الأحداث أدلى بها جندي آخر صادق...
كانت هذه الشهادة مختلفة عن الآخرين. لأنها كانت شهادة "ساخنة"؛ فقد سجل الجندي الذي شارك في مذابح 1938 أيامه في درسيم في دفتر خاص به، يومًا بيوم. كان ما يميز هذه الشهادة عما حكاه الجنود الذين كانوا يشعرون بالندم ويعانون من عذاب الضمير، والذين ضربت لهم مثلًا أعلاه، والجانب المثيرة منها هو تلك اللامبالاة الفجة لهذا الجندي الذي كان يكتب اليوميات... وعلى حد تعبير "زينب ترك يلماز" الباحثة التي أعلنت عن تلك اليوميات لأول مرة، في مقالتها التي كانت العنوان الرئيس لصحيفة "آغوس" في 29 نوفمبر 2019 فقد كان الأمر المطروح هو "رداءة الشر".
ولاحقًا نُشرت تلك اليوميات في صورة كتاب بتوقيع "محسوني غول" (أحداث درسيم 1983 بشهادة جندي، دار نشر "فام"، ديسمبر 2019).
اليوميات، المكتوبة بالأبجدية العثمانية لـ “أجندة أيجه" ترجمها إلى اللغة التركية المعاصرة محمد يلدريم. الأصل العثماني لليوميات موجود في أرشيف مكتبة أتاتورك بإسطنبول.
وفقًا لما يُفهم من المذكرات يبدأ الجندي "يوسف كنعان أكيم"، من "جارشمبه" في سامسون، حياته العسكرية في 27 أبريل 1938. يأتي إلى أرزنجان بالقطار مرورًا من سامسون وأماسيه وسيواس، بناء على أمر وصل إلى وحدته العسكرية، وفي 30 يوليو يلتقط صورة مع أصدقائه على شاطئ نهر الفرات. وعلى حين تُعرض في تلك المذكرات القصيرة مذابح 1938 مرة أخرى بكل وحشيتها وعنفها؛ فإن لا مبالاة الجندي الذي دون المذكرات تصيب دم الإنسان بالتجمد...
سأسوق بعض الأمثلة فيما يلي:
"11 أغسطس: في وقت مبكر من هذا الصباح داهمنا القرية المقابلة. لكن لم يكن هناك أحد فيها. ننتظر الأمر من أجل إحراقها. الآلة الخفيفة تضرب بالرصاص جبل "ييلان". وعلى حين نمشط الجبال اليوم، ظهر 10 أكراد. قتلت سريتنا اثنين منهم. وفر بعضهم جريحًا، وتم القبض على بعضهم. الآن، أي في الساعة 11:30، نحرق قرية "كوزلوجا (تعذرت قراءتها تمامًا)."
"18 أغسطس: في السابعة والنصف من صباح اليوم، غادرنا من ضاحية "زارا". وصلنا إلى قرية "بُولور"، ثم إلى قرية "جوزلي". أحرقنا جميع القرى الموجودة على طول الطريق. دخلنا كوخًا في الجبل. وجدنا 100 من الماعز. وقد واجهنا موقفًا مشؤومًا: امرأة كردية شنقت نفسها بالحبل."
"2 سبتمبر: نحن في منطقة بعد جوزلي. في الساعة 12 ليلا، قلعنا خيامنا وغادرنا "برتك". سرنا على الطريق حتى الصباح. وأخيراً توقفنا عند شاطئ جدول في الساعة 7. لكن بما أن قاع الجدول كان ممتلئًا بجثث البشر، فقد متنا من العطش. لقد مشينا حتى إنه ليست لدينا القوة اللازمة للوقوف على الأقدام. اللهم أنقذنا من هنا..."
"9 سبتمبر: آهٍ، ليتني كنت في أزمير اليوم. ومع ذلك، نحن نتعامل مع الأكراد على قمم الجبال. وصلنا اليوم إلى السهل ونحن نمشط الغابات والجبال. قامت سريتنا بقطع رأس "شيطان علي"، رئيس "غلمان شام"، وقتل العديد من الناس أيضًا وجلبت رؤوسهم جميعًا. الآن سريتنا تحظى بشعبية كبيرة، ويسميها جميع الضباط "السرية البطلة". وعبر اتصال هاتفي قال "علي غالب باشا" إنه يُقبِّل سريتنا من جبينها. لقد أمضينا الليلة على بعد ساعة من "أواجيق". أننا لا زلنا متعبين للغاية أيضًا..."
"10 سبتمبر: اليوم تم تمشيط الجبال والغابات. أحضرت سريتنا رأس واحد من الشخصيات الخطرة. وجلبت سرية أخرى أيضًا رأس "سيد خان". يوجد في سريتنا جندي يدعى "رُوشن". هو من يقطع كل الرؤوس. كنا بائسين للغاية هنا ..."
"11 سبتمبر: اليوم نحن نمشط الجبال. لا يمكن الدخول في الجداول بسبب جثث البشر. الجو بارد هنا لدرجة أننا نتجمد. الجميع يبكي في الليل ويصرخ متألمًا. نحن من يعاني أكبر أنواع الجفاء في العالم."
"12 سبتمبر: استيقظنا مبكرا هذا الصباح. مرة أخرى، نقوم بتمشيط الجبال. كل يوم نشتغل بقطع الرؤوس. لقد حصل أصدقاؤنا على الزيت اليوم، واشترينا الأرز، وصنعنا أرزًا لذيذًا وأكلناه مع الأصدقاء. الآن خرجنا من الإنسانية وصرنا بائسين للغاية."

في الكتاب المنشور بعنوان "أحداث درسيم 1938 بحسب يوميات جندي" توجد أيضَا صورة فوتوغرافية نشرت لأول مرة عام 1937، وهي مأخوذة من أرشيف مكتبة أتاتورك بإسطنبول. وقد كتبت عليها عبارة "النساء والأطفال القرويون المعتقلون في درسيم".
وعلى حين أكتب هذا المقال، سألت "محسونى غول" ما الذي فكر فيه، وبماذا شعر عندما قرأ اليوميات. قال لي: "بكيت"، و" لا زلت أبكي... أبكي على النساء اللائي شنقن أنفسهن عندما اقتحم الجنود قراهن. أبكي على الجثث التي تملأ الجداول. أبكي على درسيم... أبكي على الجندي الذي يقول "يا رب! متى سأتخلص من هذا المكان الرهيب!"... ماذا يجب أن أقول غير ذلك..."
ماذا يُقال خلافًا لذلك.
***
بحكم أخلاقنا وتربيتنا وأعرافنا نسامح من يعرب عن ألمه وندمه على الجريمة التي ارتكبها. حتى بالنسبة لشخص ارتكب أكثر الجرائم بشاعة بحيث أنها لا تُغتفر، فقد كان شيوخنا يقولون بالنسبة له إذا كان قد ندم عما فعل: "لِيَنَلْ عقابه من الله".
قضيتنا هي الألم الناجم عن أنه لم تتم بعد مواجهةُ جريمةٍ ضد الإنسانية ارتكبت في 1937-1938.
ذلك لأن السلام والعدالة لا يكتسبان قيمة إلا عندما نشعر بآلام بعضنا البعض، وتكون حاجة نتشاركها فيما بيننا.
وقد قال مارتن لوثر كينغ "إن ما يخيفني ليس ضغط الأشرار، بل لا مبالاة الأخيار".
إذا كانت درسيم لا تزال تنزف دمًا، فهذا قليل من عدم الاكتراث بالألم الذي تعاني منه درسيم.
تلك اللامبالاة، وذلك اليوم هو اليوم، حيث بكينا واحترقنا ومتنا.

أحوال تركية


Post a Comment

أحدث أقدم